الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: الضبط عند المبرد بضم الهمزة وكسر الباء، ورد عليه في ذلك كله بأنه لا يعرف في اللغة أصبر بمعنى صبر وإنما البيت أصبُرها بفتح الهمزة وضم الباء ماضيه صبر، ومنه المصبورة، وإنما يرد قول أبي العباس على معنى اجعلها ذات صبر.وقوله تعالى: {ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق} الآية، المعنى ذلك الأمر أو الأمر ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به، والإشارة على هذا إلى وجوب النار لهم، ويحتمل أن يقدر فعلنا ذلك، ويحتمل أن يقدر وجب ذلك، ويكون {الكتاب} جملة القرآن على هذه التقديرات: وقيل: إن الإشارة ب {الكتاب} إلى قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم} [البقرة: 6]، أي وجبت لهم النار بما قد نزله الله في الكتاب من الخبر به، والإشارة بذلك على هذا إلى اشترائهم الضلالة بالهدى، أي ذلك بما سبق لهم في علم الله وورود إخباره به، و{الحق} معناه الواجب، ويحتمل أن يراد بالأخبار الحق: أي الصادقة.و{الذين اختلفوا في الكتاب}، قال السدي: هم اليهود والنصارى لأن هؤلاء في شق وهؤلاء في شق.قال القاضي أبو محمد: ويظهر أن الشقاق سميت به المشارّة والمقاتلة ونحوه، لأن كل واحد يشق الوصل الذي بينه وبين مشاقّه، وقيل: إن المراد ب {الذين اختلفوا} كفار العرب لقول بعضهم هو سحر، وبعضهم هو أساطير، وبعضهم هو مفترى، إلى غير ذلك، وشقاق هذه الطوائف إنما هو مع الإسلام وأهله، و{بعيد} هنا معناه من الحق والاستقامة.وقوله تعالى: {ليس البرُّ} الآية: قرأ أكثر السبعة برفع الراء، و{البرُّ} اسم ليس، قال أبو علي: ليس بمنزلة الفعل فالوجه أن يليها الفاعل ثم المفعول.قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: مذهب أبي علي أن {ليس} حرف، والصواب الذي عليه الجمهور أنها فعل، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص {ليس البرَّ} بنصب الراء، جعل {أن تولوا} بمنزلة المضمر، إذ لا يوصف كما لا يوصف المضمر، والمضمر أولى أن يكون اسماً يخبر عنه، وفي مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود {ليس البرّ بأن تولوا}، وقال الأعمش، إن في مصحف عبد الله: لا تحبسن البر، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: الخطاب بهذه الآية للمؤمنين، فالمعنى ليس البر الصلاة وحدها، وقال قتادة والربيع: الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليها، وقرأ الجمهور {ولكن البر} والتقدير ولكن البر بر من، وقيل: التقدير ولكن ذو البر من، وقيل: {البر} بمنزلة اسم الفاعل تقديره ولكن البار من، والمصدر إذا أنزل منزلة اسم الفاعل فهو ولابد محمول على حذف مضاف، كقولك رجل عدل ورضى.والإيمان التصديق، أي صدق بالله تعالى وبهذه الأمور كلها حسب مخبرات الشرائع.وقوله تعالى: {وآتى المال على حبه} الآية، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل هي الزكاة، و{آتى} معناه أعطى، والضمير في {حبه} عائد على {المال} فالمصدر مضاف إلى المفعول، ويجيء قوله: {على حبه} اعتراضاً بليغاً أثناء القول، ويحتمل أن يعود الضمير على الإيتاء أي في وقت حاجة من الناس وفاقة، فإيتاء المال حبيب إليهم، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى من قوله: {من آمن بالله} أي من تصدق محبة في الله تعالى وطاعاته، ويحتمل أن يعود على الضمير المستكن في {آتى} أي على حبه المال، فالمصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى المقصود: أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو شحيح صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى، كما قال صلى الله عليه وسلم.قال القاضي أبو محمد: والشح في هذا الحديث هو الغريزي الذي في قوله تعالى: {وأحضرت الأنفس الشح} [النساء: 128]، وليس المعنى أن يكون المتصدق متصفاً بالشح الذي هو البخل، و{ذوي القربى} يراد به قرابة النسب.واليتم في الآدميين من قبل الأب قبل البلوغ، وقال مجاهد وغيره: {ابن السبيل} المسافر لملازمته السبيل.قال القاضي أبو محمد: وهذا كما يقال ابن ماء للطائر الملازم للماء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة ابن زنى» أي الملازم له، وقيل: لما كانت السبيل تبرزه شبه ذلك بالولادة فنسب إليها، وقال قتادة: {ابن السبيل} الضيف، والأول أعم، و{في الرقاب}: يراد به العتق وفك الأسرى وإعطاء أواخر الكتابات، و{إقام الصلاة} أتمها بشروطها، وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس بالزكاة المفروضة، و{الموفون} عطف على {من} في قوله: {من آمن}، ويحتمل أن يقدر وهم الموفون، و{الصابرين} نصب على المدح أو على إضمار فعل، وهذا مهيع في تكرار النعوت، وفي مصحف عبد الله بن مسعود {والموفين} على المدح أو على قطع النعوت، وقرأ يعقوب والأعمش والحسن {والموفون} {والصابرون} وقرأ الجحدري {بعهودهم}، و{البأساء} الفقر والفاقة، و{الضراء} المرض ومصائب البدن، و{حين البأس} وقت شدة القتال.هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة، وتقول العرب: بئس الرجل إذا افتقر، وبؤس إذا شجع.ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البرة بالصدق في أمورهم أي هم عند الظن بهم والرجاء فيهم كما تقول: صدقني المال وصدقني الربح، ومنه عود صدق، وتحتمل اللفظة أيضاً صدق الإخبار، ووصفهم الله تعالى بالتقى، والمعنى هم الذي جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح.
وقوله تعالى: {فاتباع} رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره فالواجب والحكم اتباع، وهذا سبيل الواجبات كقوله تعالى {فإمساك بمعروف} [البقرة: 229]، وأما المندوب إليه فيأتي منصوباً كقوله تعالى {فضرب الرقاب} [محمد: 4]، وهذا الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب وحسن القضاء من المؤدي، وقرأ ابن أبي عبلة {فاتباعاً} بالنصب.وقوله تعالى: {ذاك تخفيف من ربكم} إشارة إلى ما شرعه لهذه الأمة من أخذ الدية، وكانت بنو إسرائيل لا دية عندهم إنما هو القصاص فقط، والاعتداء المتوعد عليه في هذه الآية هو أن يأخذ الرجل دية وليه ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم واختلف في العذاب الأليم الذي يلحقه: فقال فريق من العلماء منهم مالك: هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة ولايمكن الحاكم الولي من العفو، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الله: نقسم أن يعفي عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل، وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة، وقال عمر بن عبد العزيز أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى.وقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} نحوه قول العرب في مثل: القتل أوقى للقتل، ويروى: أبقى، بباء وقاف.ويروى أنفى بنون وفاء، والمعنى أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم به ازدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معاً، وهذا الترتيب ما سبق لهما في الأزل، وأيضاً فكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعية إلى موت العدد الكثير، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به ووقف عنده وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة، وخص {أولي الألباب} بالذكر تنبيهاً عليهم، لأنهم العارفون القابلون للأوامر والنواهي، وغيرهم تبع لهم، و{تتقون} معناه القتل فتسلمون من القصاص ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك فإن الله تعالى يثيب على الطاعة بالطاعة، وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي {ولكم في القصص} أي في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص وحكمه، ويحتمل أن يكون مصدراً كالقصاص، أي إنه قص أثر القاتل قصصاً فقتل كما قتل.وقوله تعالى: {كتب عليكم} الآية، كأن الآية متصلة بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} فلذلك سقطت واو العطف، و{كتب} معناه فرض وأثبت، وقال بعض أهل العلم: الوصية فرض، وقال قوم: كانت فرضاً ونسخت، وقال فريق: هي مندوب إليها، و{كتب} عامل في رفع {الوصية} على المفعول الذي لم يسم فاعله في بعض التقديرات، وسقطت علامة التأنيث من {كتب} لطول الكلام فحسن سقوطها، وقد حكى سيبويه: قام امرأة، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل، ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل {الوصية} في {إذا} لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو {الوصية}، وقد تقدمت فلا يجوز أن يعمل فيها متقدمة، ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون {كتب} هو العامل في {إذا} والمعنى توجه إيجاب الله عليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب ب {كتب} لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، و{الوصية} مفعول لم يسم فاعله ب {كتب} وجواب الشرطين {إذا} و{إن} مقدّر، يدل عليه ما تقدم من قوله: {كتب عليكم}، كما تقول شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا، ويتجه في إعرابها أن يكون التقدير: كتب عليكم الإيصاء، ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في {إذا}، وترتفع {الوصية} بالابتداء وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه: [البسيط] أو يكون رفعها بالابتداء بتقدير: فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قيل: فالوصية للوالدين، ويتجه في إعرابها أن تكون {الوصية} مرتفعة ب {كتب} على المفعول الذي لم يسم فاعله، وتكون {الوصية} هي العامل في {إذا}، وهذا على مذهب أبي الحسن الأخفش فإنه يجيز أن يتقدم ما في الصلة الموصول بشرطين هما في هذه الآية، أحدهما أن يكون الموصول ليس بموصول محض بل يشبه الموصول، وذلك كالألف واللام حيث توصل، أو كالمصدر، وهذا في الآية مصدر وهو {الوصية}، والشرط الثاني أن يكون المتقدم ظرفاً فإن في الظرف يسهل الاتساع، و{إذا} ظرف وهذا هو رأي أبي الحسن في قول الشاعر: [الطويل] فإنه يرى أن بالرحا متعلق بقوله المتقاعس، كأنه قال: أبَعلي هذا المتقاعس بالرحا، وجواب الشرطين في هذا القول كما ذكرناه في القول الأول، وفي قوله تعالى {إذا حضر} مجاز لأن المعنى إذا تخوف وحضرت علاماته، والخير في هذه الآية المال.واختلف موجبو الوصية في القدر الذي تجب منه، فقال الزهري وغيره: تجب فيما قل وفيما كثر، وقال النخعي: تجب في خمسمائة درهم فصاعداً، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة: في ألف فصاعداً.واختلف العلماء في هذه الآية، فقال فريق: محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين، وفي القرابة غير الوارثة، وقال ابن عباس والحسن وقتادة: الآية عامة وتقرر الحكم بها برهة ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض، وفي هذه العبارة يدخل قول ابن عباس والحسن وغيرهما إنه نسخ منها الوالدان وثبت الأقربون الذين لا يرثون، وبين أن آية الفرائض في سورة النساء ناسخة، لهذا الحديث المتواتر: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث».وقال ابن عمر وابن عباس أيضاً وابن زيد: الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندباً، ونحو هذا قول مالك رحمه الله، وقال الربيع بن خثيم وغيره: لا وصية لوارث، وقال عروة بن ثابت للربيع بن خثيم: أوصِ لي بمصحفك، فنظر الربيع إلى ولده وقرأ: {وأولو الأرحام بعضَهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأحزاب: 6]، ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه.وقال بعض أهل العلم: إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة في الحديث المذكور قبل، وقد تقدم توجيه نسخ السنة للكتاب في تفسير قوله تعالى {ما ننسخ من آية} [البقرة: 106].وقال قوم من العلماء: الوصية للقرابة أولى فإن كانت لأجنبي فمعهم ولا تجوز لغيرهم مع تركهم.وقال الناس حين مات أبو العالية: عجباً له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم.وقال الشعبي: لم يكن ذلك له ولا كرامة.وقال طاوس: إذا أوصى لغير قرابة ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله وقاله جابر بن زيد.وقال الحسن وجابر بن زيد أيضاً وعبد الملك بن يعلى: يبقى ثلث الوصية حيث جلعها ويرد ثلثاها إلى قرابته.وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء: الوصية ماضية حيث جعلها الميت، والأقربون: جمع أقرب، و{بالمعروف} معناه بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ولا تبذير للوصية، و{حقاً} مصدر مؤكد، وخص المتقون بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبادر الناس إليها.
|